تواجه بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تجربة مكررة لمحاولات كسر حالة الانسداد السياسي الذي يسيطر على الأزمة الليبية؛ حيث وجود مساع حثيثة لـ “تقاسم السلطة” بين أطراف النزاع مستمرة، على الرغم من أن الأساليب التي اتبعت سابقاً لتشكيل حكومات موقتة موحدة أدت إلى تأجيج التوترات.
هذه خلاصة ورقة بحثية لأحد أكبر مراكز البحث الأوروبية، وهو معهد العلاقات الدولية والإستراتيجية الفرنسي “إيريس”، الذي أعاد تسليط الضوء على خريطة طريق هانا تيتيه الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، المرتكزة على إحياء العملية الانتخابية، وإضفاء الشرعية على المؤسسات، بهدف تهيئة الظروف لدولة ليبية موحدة.
انقسام مؤسسي عميق
فمنذ نحو عقد من الزمن، اتسم المشهد الليبي بانقسام مؤسسي عميق بين حكومة مقرها طرابلس من جهة، وهيئة تشريعية، مجلس النواب، شرق ليبيا، وفي حين أن الهيئتين معترف بها دولياً من الأمم المتحدة، لكن مجلس النواب سحب ثقته من حكومة عبدالحميد الدبيبة في طرابلس، ومنحها، منذ مارس 2022، لهيئة تنفيذية منافسة مقرها بنغازي.
في الوقت نفسه، لا يزال نفوذ الجماعات المسلحة وحلفائها الأجانب على المؤسسات يقوض الجهود المبذولة لحل النزاع، فمنذ فشل آخر خريطة طريق للأمم المتحدة، وإجهاض مشروع انتخابات ديسمبر 2021، لا يزال المشهد السياسي الليبي عالقاً في وضع راهن يستفيد منه أطراف عديدة من النخبة الحاكمة.
وتستند خريطة الطريق الجديدة، التي قدمتها المبعوثة تيتيه وهي تتبنى النماذج التي اختبرتها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا في السنوات الأخيرة، إلى ثلاثة محاور رئيسية، هي إرساء الأسس القانونية والدستورية للانتخابات الرئاسية والتشريعية، وإعادة توحيد المؤسسات حول حكومة وحدة وطنية مؤقتة، بجانب إعادة إطلاق حوار وطني مع المجتمع المدني، الذي فقد ثقته في شرعية عملية الحل.
أسلوب إنشاء الحكومات الموقتة أدت إلى التوترات
واستناداً إلى بناء التوافق وممارسة “تقاسم السلطة” بين أطراف الصراع، يرى المعهد أن الأساليب التي طُبقت سابقاً لإنشاء حكومات مؤقتة موحدة أدت إلى تأجيج التوترات أو تعطيل العملية الانتقالية.
وتحت إشراف طرف ثالث، هو بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، ولضمان الامتثال للالتزامات التي جرى التعهد بها، كان من المفترض أن تضمن ممارسة الوساطة وحل النزاعات لكل فاعل سياسي أو أمني مكاناً في العملية السياسية، وبالتالي ستتمكن الحكومة المؤقتة المنبثقة عن هذه الوساطة من توفير إطار عمل متين لتوجيه البلاد نحو الانتخابات، ومع ذلك يكشف فحص العمليات السياسية الرئيسية التي انطلقت في ليبيا باتباع هذا النهج (اتفاقيات الصخيرات في ديسمبر 2015، ومنتدى الحوار السياسي الليبي في نوفمبر 2020) عن قيود هيكلية وفق استنتاج المعهد الدولي، فبدلاً من ضمان مخرج من الأزمة تُرسي هذه العمليات نظاماً من الجمود؛ حيث يعتمد اتخاذ القرار على الحصول على موافقة متبادلة من كل طرف.
ويرى أن “نطق التوافق، الذي غالباً ما يكون غامضاً وقابلاً لإعادة التفاوض، يوفر للجهات الفاعلة الليبية إطاراً عملياً يُمكنها من التفاوض على مصالحها الخاصة، وإبرام اتفاقات غير رسمية، أو التواطؤ لمنع أي تطورات تهدد موقفها”.
تشكيل سلطة مؤقتة جديدة..تحذيرات متكررة
زيادة على ذلك، أدى الفشل المتكرر للحكومات المؤقتة السابقة في تنظيم انتخابات ذات مصداقية وتحقيق الاستقرار في البلاد إلى جمود العملية السياسية، ومنع تجديد الجهات الفاعلة في السلطة، لذا يحذر المعهد من”“استنساخ خريطة الطريق الجديدة هذا النهج لتشكيل سلطة تنفيذية مؤقتة جديدة، ما قد يؤدي ذلك إلى إحياء الترتيبات غير الرسمية بين مختلف الجهات المعنية. فقد تسعى هذه الجهات المعنية مجدداً للحفاظ على امتيازاتها في إطار العملية الانتقالية الجديدة”.
وللتغلب على التأخيرات وممانعة النخب الليبية، لوحت ممثلة بعثة الأمم المتحدة للدعم بأنها ستطلب من مجلس الأمن اتخاذ إجراءات ضد أي جهة تحاول عرقلة العملية الجديدة.
ولفت المعهد الفرنسي إلى البُعد الإقليمي والدولي للصراع الليبي؛ إذ تنص المبادرة الأممية على إعادة إطلاق المشاورات الدولية، المعروفة سابقاً باسم “عملية برلين”، ويهدف هذا الإطار، الذي أُطلق العام 2020، إلى إشراك المؤسسات والجهات الفاعلة الدولية في عملية حل النزاع، التي تفاقمت منذ 2019 مع استئناف القتال المسلح في إطار الهجوم العسكري على طرابلس.
انتشار القوات الأجنبية في ليبيا
وأدى هذا الصراع بشكل ملحوظ إلى مشاركة نشطة لمجموعة “فاغنر” الروسية إلى جانب قوات حفتر، بينما انتشرت القوات التركية في الغرب لدعم الحكومة في طرابلس. ومن خلال إشراك القوى الأجنبية في حل الصراع، أتاحت عملية برلين التفاوض على وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، وكان إشراك الأطراف الدولية يهدف إلى ضمان التزامها بوقف إطلاق النار.
وعلى الرغم من التزام الأمم المتحدة بالسلام ودعمها المرحلة الانتقالية، فإن ذلك لم يمنع من التدخل المستمر من بعض الدول الحريصة على مصالحها الإستراتيجية في ليبيا، وحسب الورقة البحثية، سعت هذه الدول بشكل ملحوظ إلى التأثير على مبادرات الوساطة والمراحل المختلفة لخرائط الطريق السياسية التي تنفذها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.
وفي هذا السياق، يتساءل المعهد حول الأدوات التي يمكن استخدامها لإجبار هذه الجهات الفاعلة على احترام خريطة الطريق الجديدة، فلا يزال انسحاب القوات الأجنبية من الأراضي الليبية أحد العوائق الرئيسية أمام تحقيق سلام دائم، وبناء دولة ذات سيادة، وستحتل هذه القضية بالضرورة مكانة محورية في الحوارات المتعددة الأطراف.
عوامل إنجاح خريطة الطريق
في المقابل، أبرز المعهد الفرنسي ضرورة اعتماد نجاح خريطة الطريق الجديدة بشكل كبير على إحياء برامج إصلاح قطاع الأمن، وعملية نزع السلاح، والتسريح، وإعادة الإدماج.
في الواقع، لا يزال السياق الأمني حساساً للغاية نظراً لتشرذم القوات المسلحة في جميع أنحاء البلاد. ففي مايو 2025، وقعت اشتباكات عنيفة بين قوة الردع الخاصة، وهي إحدى أقوى الجماعات المسلحة في العاصمة، التي تسيطر على مطار معيتيقة الدولي، وأخرى مرتبطة بتشكيلات متحالفة مع حكومة طرابلس، التي لا تزال تعتمد على دعم هذه الجماعات للحفاظ على سلطتها.
مناقشة حول هذا post