الدولة هي كيان “للقاء الفرقاء” على إقليم محدد المعالم، وسلطة مُوحدة، وسيادة مُعترف بها. بمعنى آخر، هي كيان له إقليم، وشعب، وسلطة، وسيادة، وأي كيان آخر يفتقد هذه الأركان الأربعة، أو أي ركن منها، لا يمكن اعتباره دولة بالمعنى الحديث.
في العالم اليوم هناك أكثر من 75 شعبًا يوجد به حركات تحرر تطالب بأن يكون لها دولة مستقلة. فعلى سبيل المثال، ها هو الشعب “الفلسطيني” يناضل منذ 1948 لتأسيس دولته المستقلة، وها هو الشعب “الكردي” مُقسم بين خمس دول، وليس له دولة مستقلة ذات سيادة خاصة به، وحتى عندما قام الشعب الكردي في كردستان العراق بإجراء استفتاء على تقرير مصيره عام 2017، وكانت نتيجة التصويت 92% لصالح الاستقلال، لم يتحقق له ذلك، ورفضت الدول الاعتراف بدولته!
وإلى جانب الشعبين – الفلسطيني والكردي – هناك شعوب أخرى تحاول تأسيس دولتها المستقلة؛ مثل شعب “كوبك” في كندا، والشعب “الإسكوتلندي” في بريطانيا، وشعب “الباسك” بين فرنسا وإسبانيا، والشعب “الكتالوني” في إسبانيا، والشعب “القبرصي” في قبرص الشمالية، والشعب “الكشميري” بين الهند وباكستان، والشعب “الصحراوي” في جنوب المغرب.
ولكن الأغرب من هذا كله؛ أن تجد اليوم كيانات سياسية مُعترفًا بها دولياً وعضواً في الأمم المتحدة، على الرغم من من أنه لا يمكن اعتبارها دولاً حقيقية؛ لأنها ليست في الحقيقة مستقلة، ولا مستقرة، وليس لها سيادة كاملة، وإنما مجرد كيان منهار، ولعل أحسن وصفًا لها هو أنها “دول زائفة“!
وهنا يُمكن للمرء أن يتساءل:
ما المقصود بالدول الزائفة؟!
وما هي أهم مؤشرات انهيارها؟
وهل في الإمكان إصلاحها؟
الدولة الزائفة
مصطلح “زائف” يُطلق على شيء أو شخص أو كيان يُنظر له على أنه حقيقي، ولكن في الواقع هو عكس ذلك. أما مصطلح “الزائف” في قواميس اللغة، فهو “الكاذب”، أو “المتظاهر”، أو “الخادع”، أو “الوهمي”. وعليه فالمقصود بمصطلح “الدولة الزائفة” هو وجود كيان سياسي يفتقر إلى ركن (أو أكثر) من الأركان الأربعة الأساسية للدولة؛ أي شعب، وأرض، وسلطة، وسيادة. بمعنى آخر فالدولة الزائفة ببساطة هي دولة منهارة.
ليبيا نموذجاً
لعله من المناسب أخذ الكيان السياسي الليبي كمثال على زيفه وانهيار مؤسساته ومكوناته! وهنا قد يسأل سائل فيقول:
ألا يُعد هذا ظلماً في حق النخب الليبية التي تقود هذا الكيان السياسي؟!
ولتوضيح زيف مصطلح “الدولة” في ليبيا؛ يمكن الاستدلال بنتائج المؤشرات الدولية التي إذا اجتمعت في أي كيان سياسي ستقود حتماً إلى زيف ووهم دولته، وهذه المؤشرات هي:
- عدم الاستقرار.
- الهشاشة.
- الفساد.
- التفكك.
- التخلف.
- التبعية.
أولاً: عدم الاستقرار
إن المؤشر الأول والأساسي لاِنهيار الكيان السياسي الليبي، الذي قاد إلى زيف الدولة هو “مؤشر عدم الاستقرار”؛ ويعني عدم القدرة على التنبؤ بالمستقبل، وعدم الثقة في كل ما يمكن القيام به، والتصرف بطرق وأساليب متغيرة؛ مما يقود إلى الاضطرابات والصراعات المُدمرة لمكونات المجتمع ومؤسسات الكيان، ويقود ذلك إلى غياب النمو والتطور والنهضة، ويزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي النهاية يقود إلى غياب السلام والعدالة.
ثانياً: الهشاشة
أما المؤشر الثاني الأساسي لانهيار الكيان السياسي الليبي، الذي قاد إلى زيف الدولة هو “مؤشر الهشاشة”؛ الذي كان يطلق عليه قبل 2014 “مؤشر الدول الفاشلة”، وهو مؤشر تعده مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية، ويصف وضع 187 دولة في العالم، ويستخدم 12 معيارًا لقياس درجة الهشاشة، من أهم هذه معايير؛ سيادة الدولة، والأوضاع الأمنية، ومعدلات البطالة، والخدمات العامة، وحقوق الإنسان.وتُعرف الدولة الهشة بأنها “الدولة التي لديها قدرات ضعيفة للقيام بالوظائف الحكومية الأساسية وبناء علاقات مع المجتمع.
ثالثا: الفساد
أما المؤشر الثالث الأساسي لانهيار الكيان السياسي الليبي، والذي قاد إلى زيف الدولة هو “مؤشر الفساد.” يُعرف الفساد لغوياً على أنه “تغير الشيء من وضعه الصالح إلى الأسوأ”. أما معجم أوكسفورد الإنكليزي فيُعرف الفساد سياسياً على أنه “انحراف، أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة”. أما اصطلاحًا، فعرفه البنك الدولي على أنه “شكل من أشكال خيانة الأمانة، أو جريمة يرتكبها شخص أو منظمة يُعهد إليها بمركز سلطة؛ وذلك من أجل الحصول على مزايا غير مشروعة”.من هذه التعريفات يمكن استخلاص أهم مظاهر الفساد في أي مجتمع، وهي: (1) التكسب من وراء الوظيفة العامة، (2) المحاباة، (3) الرشوة، (4) المحسوبية، (5) الابتزاز، و(6) ممارسة النفوذ والاحتيال.
رابعاً: التفكك
أما المؤشر الرابع الأساسي لانهيار الكيان السياسي الليبي، والذي قاد إلى زيف الدولة هو “مؤشر التفكك”؛ الذي يعني انقسام الكيان السياسي وتشرذم مؤسساته إلى درجة أنه لم يكن قادراً على العمل بشكل مُوحد ومُنتج، مما يقود إلى انهيار كل شيء في المجتمع. ولعل من أهم معالم تفكك الكيان؛ هو تعدد الفصائل الحزبية، والتكتلات السياسية، وكثرة الانقسامات الدينية والعرقية والجهوية، ومن أهم أسباب التفكك: (1) العناد السياسي، (2) الولاءات العرقية والجهوية والدينية، (3) ضعف البنية الاقتصادي، (4) عدم الاستقرار، (5)غياب الحقوق السياسية والمدنية، و(6) انتشار الجريمة والعنف.
خامساً: التخلف
أما المؤشر الخامس الأساسي لانهيار الكيان السياسي الليبي، والذي قاد إلى زيف الدولة هو “مؤشر التخلف”، والمقصود به عدم إنجاز التقدم المطلوب وفقاً لمعايير مُتفق عليها، ومقارنةً بما تم إنجازه في الدول الحديثة. وللتخلف أبعاد عديدة لعل منها الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، وكذلك التكنولوجي.
سادساً: التبعية
أما المؤشر السادس الأساسي والأخير لانهيار الكيان السياسي الليبي، والذي قاد إلى زيف الدولة هو “مؤشر التبعية.” والمقصود بالتبعية هي التبادل غير المتكافئ ونتائجه بين البلدان المتقدمة والمتخلفة، وتحدث عندما يكون للدول القوية تأثير كبير على البلدان الضعيفة؛ مما ينتج عنها فقدان الدولة الضعيفة لاستقلالها وسيادتها لصالح الدول القوية، وتصبح الدول الضعيفة تدور في فلك الدولة المسيطرة على سياساتها وثرواتها.
وفقًا لهذا الفهم، يمكن للمرء أن يرى أن جُل الأحزاب والتكتلات والشخصيات المُسيطرة على المشهد السياسي، تجاهر وتتفاخر بتبعيتها للقوى الخارجية، والأسوأ من ذلك أن بعضهم يقضى جُل وقته في تسويق مواقف هذه الدول ويتبنى تصوراتها لمستقبل البلاد.
الخلاصة
مما تقدم يمكن استخلاص أن الكيان السياسي الليبي وفقاً للمؤشرات الست المذكوره أعلاه؛ هو كيان منهار، وزائف، وفاشل، بمعنى هو كيان غير مستقر، وهش، وفاسد، ومُفكك، ومتخلف، وتابع. وكنتيجة لذلك صُنفت ليبيا من أكثر وأسوأ الدول فساداً في العالم، وحلت في مرتبة متأخرة بين الدول الأقل رخاءً وازدهارًا، وأصبح كيانها السياسي عاجزًا عن القيام بأي شيء، ومعتمد علي الدول الإقليمية والدولية في حل مشاكله.
وعليه فعلى النخب الوطنية- بكل اتجاهاتها – أن تعي هذه الحقيقة ؛ ألا وهي أن الكيان السياسي الموجود في ليبيا هذه الايام “ليس دولة“! بمعني آخر، أن الشعب الليبي يعيش مرحلة ما قبل الدولة! وعلى النخب الوطنية أن تسعى وفي أسرع وقت ممكن لتوحيد صفوفها من أجل تأسيس دولة دستورية مُوحدة وديمقراطية وعادلة. ولعل من أهم الخطوات الضرورية التي يجب اتخادها كالآتي:
أولاً: ضرورة تحقيق الاستقرار، واعتباره نقطة الانطلاق، لأنه يوفر الأمان والقدرة على التخطيط الاستراتيجي، ويزيد من الشعور بالثقة والتفاؤل في المستقبل.
ثانيًا: ضرورة وضع استراتيجية لمكافحة الفساد بكل أنواعه، والتأكيد على أن الإصلاح يبدأ من أعلى الهرم السياسي، ولا بد من الوعي بمخاطر الفساد المُدمرة للمجتمع، والمُنهكة لقدرات الدولة والمُقوضة لشرعيتها ومؤسساتها.
ثالثًا: ضرورة التأكيد علي استقلالية القرار السياسي، والاعتماد علي التخصص المهني، وتوظيف التنوع الشعبي، وتحديد الأولويات المطلوبة.
رابعًا: ضرورة تأسيس قوات عسكرية وأمنية وطنية مُوحدة؛ لحماية حدود الدولة وتقوية مؤسساتها، ونشر الأمن والأمان في كل ربوع الوطن؛ لأن غياب هذه القوات كان السبب الرئيسي لتفكك وتشرذم مكونات الكيان السياسي.
خامسًا: ضرورة أخذ زمام المبادرة لتوفير الإمكانات الضرورية، ولتهيئة الظروف المناسبة لاستعادة المؤسسات التعليمية والمهنية المطلوبة وبالشكل الذي تحتاجه الدولة، وبما يتناسب مع مؤشرات جودة التعليم في الدول المتقدمة.
مناقشة حول هذا post