ذكرت مجلة نيو لاينز الأمريكية في تقرير مطول بعنوان” كيف نجا محافظ مصرف ليبيا المركزي من عقد من الصراع” أن الصديق الكبير حافظ على منصبه منذ عام 2011 وسط عقد من الاضطرابات والحروب الأهلية وعاصر أكثر من ستة رؤساء وزراء، صامدا أمام محاولات عديدة لإزاحته، سواء من قبل الدبلوماسيين الأمريكيين أو الهجمات العنيفة التي شنتها الفصائل الليبية المتعاقبة، لذلك ظل يحمل مفاتيح الخزانة الليبية.
وقالت المجلة الأمريكية، في تقريرها الذي كتبه كبير الباحثين في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، ولفرام لاخر، إن عدد موظفي الدولة تقريبا، تضاعف إلى 2.4 مليون، من إجمالي عدد السكان البالغ 7 ملايين نسمة، حيث توظف وزارة التعليم وحدها أكثر من 650،000 شخص، أي ما يقرب من 10٪ من السكان وتوظف وزارة الصحة 210 آلاف شخص آخر، على الرغم من أن المستشفيات الحكومية آخذة في التدهور.
وأضافت المجلة أنه في 2014 اندلعت الحرب بين تحالفات الميليشيات المتنافسة في كل من طرابلس وبنغازي وانهارت الحكومة الانتقالية الهشة في مرحلة ما بعد القذافي، وانقسمت مؤسسات الدولة إلى قسمين – من بينها المصرف المركزي، حيث انتقل نائب الكبير علي الحبري، إلى شرق ليبيا مع ثلاثة أعضاء آخرين في مجلس الإدارة، ثم عين البرلمان المشكل حديثا في الشرق، والذي يتمتع باعتراف دولي، الحبري محافظا، وبدأ في إنشاء مصرف مركزي مواز، فيما عاد الكبير، الذي بقي في مالطا مع اندلاع الحرب إلى طرابلس، محتفظا بولاء عضوين آخرين في مجلس الإدارة، في ظل السيطرة على رموز “سويفت” SWIFT الخاصة بالمصرف، والتي تساعد المصارف على التعرف إلى بعضها البعض.
ووفق مجلة نيو لاينز، سرعان ما قررت الحكومات الغربية عدم الاعتراف بالتعيينات الجديدة التي أجرتها السلطات الشرقية في المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، وعلى غرار الكبير، ظل رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس، مصطفى صنع الله، في منصبه منذ ما قبل الانقسام.
وفي نظر الأطراف الدولية، ظل الكبير وصنع الله الرئيسان الشرعيان للمؤسستين، وسط الاعتراف الدولي الذي سمح للكبير بالانتصار على الحبري بدعم من الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة وصندوق النقد الدولي، وفق ما أكده المبعوث الألماني السابق مارتن كوبلر.
وأفادت المجلة بأن هيئة الحبري التي تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى العملة الصعبة لجأت إلى خلق المال من فراغ عبر طباعة مليارات الدنانير في روسيا بعد الحد من التحويلات النقدية إلى الشرق عقب الانقسام، فيما منح الحبري الفضل إلى المصارف الشرقية بإيداعات وهمية في مصرفه المركزي مقابل دفع رواتب لموظفي السلطات الشرقية الموازية – مما أثقل كاهل هذه المصارف بمليارات الدنانير من الدين العام.
وبحسب المجلة، فإن السمة الأكثر إرباكا في هذا الوضع هي أن المصرف المركزي بطرابلس واصل دفع رواتب موظفي الدولة في جميع أنحاء ليبيا – بما في ذلك رجال الميليشيات على جانبي الحرب الأهلية وسط مواصلة الكبير العمل مع كشوف المرتبات التي سبقت الحرب الأهلية، في محاولة منه الحفاظ على حياد البنك المركزي في الصراع من خلال تمويل كلا الجانبين في الحرب، حتى إن أموال الدولة وصلت إلى جماعات جهادية في عام 2015، حيث ظهرت شيكات المصرف المركزي التي قدمتها وزارة الدفاع في طرابلس إلى تحالف من الجماعات المسلحة التي شملت أنصار الشريعة.
وتابعت المجلة الأمريكية أن مدفوعات الرواتب بشكل عام همت احتفاظ الليبيين بالحد الأدنى من الدخل على الرغم من التداعيات الاقتصادية الوخيمة للصراع، وقد استفاد المواطنون في جميع أنحاء البلاد.
في 2018، أدخلت حكومة طرابلس مئات الآلاف من موظفي السلطات الموازية الشرقية على كشوف رواتبها، ومنذ عام 2021 حولت الحكومة مبالغ كبيرة إلى حفتر، الذي لا يعترف بحكومة طرابلس وحاول الإطاحة بها، في حين أن هذه الأموال مخصصة ظاهريا للرواتب، إلا أن سلطات طرابلس ليس لديها وسيلة للتحقق من المستفيدين النهائيين من الأموال.
وأشارت مجلة نيو لاينز إلى أنه من خلال الاستمرار في دفع الرواتب في جميع أنحاء ليبيا، ظل المصرف المركزي الركيزة الأخيرة التي تقف للحفاظ على تماسك البلاد، والمسؤول الوحيد عن الحفاظ على استمرار اقتصادها، كما يرى معاونو الكبير أنه من خلال مطالبة الوزارات بمطابقة الموظفين بنظام الهوية الوطنية الذي تم تقديمه في عام 2015، فقد ساعدوا في الحد من الاحتيال على نطاق واسع في الرواتب.
وبحلول عام 2016، خفض الكبير مبيعاته من العملة الصعبة إلى ثلث مستواها في عام 2014، ونظرا لعدم قدرتهم على الحصول على العملات الأجنبية من خلال خطابات الاعتماد، لجأ المستوردون إلى السوق السوداء – مما حرم النظام المصرفي من أموالهم وأثار نقصا مزمنا في السيولة النقدية في البنوك، وكانت النتيجة اتساع الفجوة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء، اللذين كانا قبل الحرب على قدم المساواة مع بعضهما البعض، وبحلول أواخر عام 2016، كان سعر الدولار في السوق السوداء أربعة أضعاف السعر الرسمي وبعد مرور عام انخفض عن المعدل الأصلي.
وكانت الشركات التي يمكنها الحصول على خطابات اعتماد تتمتع بامتيازات عالية – واتخذ البنك المركزي القرار النهائي بشأن الوصول إلى العملات الأجنبية بالسعر الرسمي ما شكل فرصا هائلة للاحتيال من خلال استغلال فارق السعر مع السوق السوداء، حيث كانت الشركات تفتح خطابات اعتماد لسلعة معينة، ثم تستورد حاويات مملوءة بزجاجات المياه أو ببساطة لا شيء، وبعد رشوة الجمارك للتصديق على أن الصفقة قد تمت كما هو مخطط لها، يمكنهم بيع العملة الصعبة التي اشتروها بالسعر الرسمي في السوق السوداء، وجني أرباح تصل إلى 600 في المئة.
وبحسب المجلة، خلص تقرير مسرب من قبل ديوان المحاسبة عام 2018 إلى أن البنك المركزي تسبب عمدا في أزمة في الواردات من خلال عرقلة عمل لجنة حكومية مشتركة تم تشكيلها للإشراف على خطابات الاعتماد، وبما أن ارتفاع أسعار السلع الأساسية زاد من الضغوط السياسية لإيجاد حلول سريعة، فقد خصص البنك خطابات الاعتماد من تلقاء نفسه، حيث كانت بعض الشركات التي تستفيد من خطابات الاعتماد شركات واجهة للجماعات المسلحة ووثقت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة خطابات اعتماد تزيد قيمتها على 20 مليون دولار.
ووفق المجلة يعد الصديق الكبير الناجي الوحيد من المستوى الأعلى منذ عام 2011. عندما اندلعت ثورة فبراير 2011، حيث كان الكبير في لندن، على رأس الفرع المحلي لبنك ABC، الذي يمتلك البنك المركزي الليبي أغلبية أسهمه، ذهب إلى بنغازي، وبدعم من شخصيات مؤثرة من طرابلس، أصبح واحدا من ستة أعضاء يمثلون العاصمة في المجلس الوطني الانتقالي، وفي سبتمبر بعد سقوط طرابلس وبينما الحرب لا تزال مستمرة، عين المجلس الوطني الانتقالي الكبير محافظا للبنك المركزي، حيث قال عبد الرزاق عرادي، وهو رجل أعمال بارز وعضو سابق في جماعة الإخوان المسلمين”إذا غادر الصديق الكبير، فإن عصر ثورة فبراير سينتهي”.
بحلول ديسمبر 2020، كان الكبير تحت ضغط من جميع الجهات، واتفق كل من رئيس الوزراء فائز السراج ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله والأمم المتحدة على تجاوزه مما حرم المصرف المركزي من عائدات النفط، وسط هذا الوضع المحفوف بالمخاطر، عقد الكبير اجتماعا لمجلس الإدارة مع علي الحبري والأعضاء الآخرين في الشرق – وهو الأول منذ عام 2014 حيث كان السراج وصنع الله يضعان الكبير في الزاوية، من خلال التواصل مع الحبري وافق المجلس على تخفيض قيمة الدينار وتمديد خطوط الائتمان وكذلك الوصول إلى العملة الأجنبية للعديد من البنوك التي تتخذ من الشرق مقرا لها، وعلى مدى العام ونصف العام التاليين، أجرى الكبير والحبري عملية مطولة أدت ظاهريا إلى إعادة توحيد المصرف المركزي ورغم فشلها حولت الكثير من الضغط الدولي الذي واجهه الكبير.
وبالتوازي مع التقارب مع الحبري، شارك الكبير في المفاوضات التي تقودها الأمم المتحدة حول تشكيل حكومة وحدة لتحل محل كل من السراج والسلطات الشرقية الموازية، وأجرى محادثات عبر القنوات الخلفية مع البرلمانيين، ووفقا لشخص واحد حضر الاجتماعات، اعتبر تعاونه بمثابة الورقة الرابحة لأي رئيس وزراء محتمل يدعمونه، بحسب المجلة.
ووفق المجلة، عينت المحادثات التي قادتها الأمم المتحدة في فبراير 2021 عبد الحميد الدبيبة رئيسا للوزراء ، وسط مزاعم بأن أقارب الدبيبة قد رشوا العديد من المفاوضين، وحينها استأنف صنع الله تحويلات المؤسسة الوطنية للنفط لعائدات النفط إلى المصرف المركزي، الذي مول مشاريع الدبيبة الاستثمارية العامة والزيادات السخية في رواتب موظفي الخدمة المدنية.
ولعدة أشهر، وضع الكبير تحالفه الوثيق مع الدبيبة على الملأ، وظهر مع الدبيبة في منتدى للشباب، حيث أعلن رئيس الوزراء عن منح باهظة لمساعدة الشباب على الزواج، ما منح الدبيبة شعبية هائلة،
حيث قال حينها رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري “الشيء الوحيد الذي نجح فيه الدبيبة هو فتح باب الوصول إلى المصرف المركزي، كان الكبير يرفض دائما طلبات الحكومات السابقة، وبمجرد وصول الدبيبة، بدأ في صرف الأموال”.
ووفق مجلة نيو لاينز، سرعان ما تلاشى نجم الدبيبة، وحصل فتحي باشاغا على دعم حفتر لتشكيل حكومة جديدة أوائل عام 2022، وفي مواجهة متوترة استمرت لشهور، تودد كل من باشاغا والدبيبة إلى الجماعات المسلحة في العاصمة وحولها، وبحلول أغسطس صد الدبيبة المحاولة الأخيرة لحكومة باشاغا لتولي السلطة في طرابلس، وعزز الدبيبة قبضته منذ ذلك الحين، لكن حكومة باشاغا لا تزال نشطة في الشرق، ويقال إنها تعود إلى جمع الأموال من خلال البنك المركزي في بنغازي.
وفي الوقت نفسه، انتهج الكبير سياساته التقشفية السابقة، ما أدى إلى خفض الإنفاق الحكومي إلى حد كبير إلى دفع الرواتب والإعانات وحافظ على غموضه تجاه الدبيبة وباشاغا، فضلا عن حسن نية الولايات المتحدة والأمم المتحدة، اللتين انزعجتا من التقارير التي تفيد بأن الدبيبة كان يوزع شيكات على الميليشيات للحفاظ على نفسه في منصبه، وتحت ضغط الولايات المتحدة، بدأ الكبير أيضا في نشر بيانات أكثر تفصيلا عن الإنفاق الحكومي.
وينقل الباحث عن كبار الدبلوماسيين الأجانب الذين التقوا بالكبير بشكل منتظم أقروا بأنه ظل لغزا بالنسبة لهم، كونه ليس الحاجز النهائي ضد نهب الدولة الليبية، كما يؤكد هو نفسه، ولا الجاني الأكبر وراء أزمتها، كما يقول أعداؤه، ومع ذلك، فإن العديد من منتقديه، الذين اعترفوا بتقشفه، قبلوا على مضض ادعائه بأنه ساعد في إنقاذ ليبيا من الإفلاس والاعتماد على القروض الخارجية.
ويقول الباحث ولفرام لاخر “إن الغموض الذي يكتنف شخصية الصديق الكبير يعكس العديد من التناقضات في ليبيا ما بعد القذافي—التناقضات التي ساهم في تشكيلها: تمويل الدولة للفصائل المتنافسة التي تتنافس على سيطرتها، التحالفات المتغيرة باستمرار، التواطؤ بين الخصوم السياسيين المزعومين في إدامة أزمة البلاد؛ ويخلص إلى أن تسوية النزاعات في ليبيا هو الحدث الوحيد الكفيل بإنهاء فترة ولاية الكبير”.
مناقشة حول هذا post