سنوات عجاف شهدتها البلاد طيلة العقد الماضي، عانى خلالها الليبيون من انهيار في المنظومة الاقتصادية في البلاد ألقى بظلاله على مختلف مناحي الحياة؛ ليعمّق بذلك أزمة المواطن لتطال قوته اليومي.
ومع تسلّم حكومة الدبيبة مهامها في مارس من العام 2021 في أجواء سادتها الودية والرغبة في توحيد البلاد، وإصلاح مختلف القطاعات، ما أتاح أمامها المجال للاستفادة من هذا الزخم، وإصلاح ما أفسده المسؤولون قبلها.
ولكنّ الواقع كان بخلاف ذلك تماما، فقد أعلن عبد الحميد الدبيبة عن خطط واعدة في الاقتصاد والتنمية، وإصلاحات في عدة قطاعات ستُنفذ خلال فترة ولايته التي تنتهي في ديسمبر من العام نفسه، غير أن ذلك كله كان “سرابا يحسبه الظمآن ماء” ولم يتحقق منه شيء؛ لتزداد المشاكل، ويضيق الخناق على المواطنين أكثر فأكثر.
غلاء في السلع الأساسية
حين أعلن مصرف ليبيا المركزي تعديل سعر صرف الدينار الليبي أمام العملات الأجنبية، في ديسمبر من العام 2020، كانت هذه الخطوة ضمن حزمة من الإجراءات الاقتصادية والمصرفية التي تهدف إلى إصلاح اقتصاد البلاد، وهو ما لم تلتزم به حكومة الدبيبة التي كان ينبغي عليها مراعاة هذه الخطوة للاستفادة من وقف التضخم، ومحاولة تسديد جزء من الدين العام الداخلي، والاكتفاء بتقديم الخدمات التي تعهدت بها في ملتقى الحوار السياسي عند تقديم أوراق الترشح.
ما حدث كان على عكس ذلك، فقد توسعت حكومة الدبيبة في الإنفاق بشكل كبير لتقترح ميزانية هي الأوسع في تاريخ الدولة الليبية بأكثر من 96 مليار دينار ليبي؛ لتضرب بالإصلاحات الاقتصادية عرض الحائط، وتدخل البلاد في موجة من التضخم أدت إلى غلاء المعيشة بشكل يفوق متوسط رواتب الموظفين في المؤسسات العامة للدولة، ودفع بالبلاد نحو ركود اقتصادي كبير.
الغلاء انتشر بالدرجة الأولى في السلع الأساسية للمواطن التي يحتاجها بشكل يومي، وهو ما تسبب في موجة من الاحتجاجات حاولت الحكومة تلافيها عبر سلسلة من القرارات من قبل وزارة الاقتصاد لم تكن سوى “حبر على ورق”.
ومع القرارات التي وصفها محللون اقتصاديون بأنها “غير مدروسة” فيما يتعلق بالزيادات المُقرة لعدد من القطاعات، ارتفع معها الطلب على السلع، أدى إلى أن صاحبه ارتفاع في الأسعار، وهو نتاج طبيعي للقرار غير المدروس من الناحية الاقتصادية.
حتى الخبز!
لم يكن أهم غذاء لليبيين بمنأى عن موجة الغلاء التي اجتاحت البلاد ؛ فقد ارتفعت أسعار الدقيق بشكل كبير على الرغم من وجود مخزون كبير في مخازن التجار، ودون أي مبررات مقبولة، ما لاقى موجة غضب شعبية واسعة ازدادت عقب تحجّج التجار بالأزمة الروسية الأوكرانية وتسبّبها في أزمة عالمية ما يتناقض تماما مع الكميات الضخمة المكدسة في المخازن.
مصارف بلا نقود
مع ارتفاع أسعار الضروريات غابت السيولة النقدية عن الليبيين؛ فالسلعة غالية والأموال بعيدة المنال! وهو ما يؤكد تناقض عمل حكومة الدبيبة مع السياسات الإصلاحية التي كان من المتوقع أن تقوم بها؛ لتصحيح الانحراف في مسارات الاقتصاد الوطني الذي بات مستقبله في دوامة من المخاوف، وفق أساتذة الاقتصاد.
مكمن الخطأ
المحلل الاقتصادي نور الدين حبارات أوضح، في مقال عددا من الإجراءات التي كان ينبغي على حكومة الدبيبة القيام بها، أولها تخفيض نفقات الباب الثاني الذي يتعلق معظمه بنفقات الجهاز الإداري إلى قرابة النصف أي بمقدار 4 مليارات دينار؛ نظرا إلى ما يشكله من عبء على خزانة الدولة.
كما بيّن أنه كان يجب تخفيض نفقات التنمية بمقدار الثلثين ليحقق توفير قرابة 12 مليار دينار، فالإنفاق التنموي يحتاج إلى خطط واستراتيجيات ودراسات مسبقة وأمن وأوضاع مستقرة في كل ربوع البلاد؛ ليتسنى لأي حكومة وأجهزتها متابعة تنفيذ المشروعات والإشراف عليها ومراقبتها بشكل جيد.
ولفت أيضا إلى إمكانية تخفيض نفقات باب الدعم بنسب %20 أي توفير 4 مليارات دينار، عبر ضبط وترشيد فاتورة الوقود والدعم المخصص لجهاز الإمداد الطبي؛ لغرض شراء الأدوية والمستلزمات الطبية وكذلك الدعم المخصص لشركة الكهرباء وغيرها.
وتابع قائلا: “كان يجب على الحكومة إلغاء باب الطوارئ، فميزانية الطوارئ تتطلب ظروفا اسثتنائية غير اعتيادية لم تكن موجودة خلال العام 2021م فضلا عن أنها تنظمها قوانين ولوائح مالية محددة، وإلغاء باب الطوارئ يعني لنا توفير مبلغ 6.5 مليار دينار”.
ليصل إجمالي ما كان يمكن توفيره من الميزانية العامة للدولة قرابة 27 مليار دينار أنفقتها الحكومة لتتسبب في ركود اقتصادي معقد أرهق القدرة الشرائية، وفاقم من المعاناة، يقول حبارات.
حسابات اقتصادية يراها محللون اقتصاديون “خاطئة” أدت إلى تضخم قاد بدوره إلى “ركود” تجمّد بها أي إصلاح ممكن للاقتصاد الوطني، وقلّت فرص ذلك؛ لتصبح مهمة الحكومة الليبية في إصلاح ما أفسده الدبيبة أصعب من ذي قبل، ولكنها تظل مهمة واجبة التنفيذ لإسعاف بلد أُرهق كاهل مواطنه، وأنهكته صعوبة الحياة.
مناقشة حول هذا post