يبدو أنّ اليونان وضعت الملف الليبي أمامها بوضوح، وجعلت من لجم التمدد التركي على الساحل الليبي إحدى أولويات سياستها الديبلوماسية، لكن هذا الاهتمام – كما يبدو – جاء متأخراً ويواجه تحديات عدّة.
فخلال النصف الثاني من العام الجاري سُجّل حراك ديبلوماسي يوناني مكثّف تجاه ليبيا، تزامن مع مناقشة قادة شرق ليبيا تمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقّعتها طرابلس مع أنقرة عام 2019.
وقد استهلّ وزير الخارجية اليوناني جورجيوس جيرابيتريتيس هذا الحراك بزيارة ليبيا ولقاء المسؤولين المتحكمين شرقا وغرباًا، لتتبعها بعد نحو شهرين زيارة وزير خارجية حكومة طرابلس الطاهر الباعور إلى أثينا، وصولا إلى زيارة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح الأسبوع الماضي إلى العاصمة اليونانية التقى خلالها نظيره نيكيتاس كاكلامانيس.
لكن مع كشف وسائل إعلام يونانية تفاصيل المحادثات، تبيّن وجود فجوة عميقة بين مواقف الجانبين، فقد نُقل عن رئيس البرلمان اليوناني دعوته عقيلة صالح إلى عدم التصديق على اتفاق ترسيم الحدود مع تركيا، مطالباً بإلغائه نهائياً بما يصبّ في مصلحة ليبيا أولاً ثم اليونان، وكرر وزير الخارجية اليوناني رفض بلاده للاتفاق الموقّع عام 2019، لأنه – بحسب قوله – “يتداخل مع الجزر اليونانية ومناطقها الاقتصادية الخاصة، وبالتالي ينتهك قانون البحار الدولي”.
من جهته، أصدر رئيس الحكومة في بنغازي أسامة حماد، بيانا قال فيه إن حكومته تؤكد أن ليبيا دولة ذات سيادة راسخة لا تقبل المساس بحقوقها البحرية أو التشكيك في اتفاقياتها الثنائية المشروعة.
وأوضح أن ليبيا “لا تسمح لأي طرف خارجي بالحديث نيابة عنها أو التدخل في خياراتها القانونية والدبلوماسية التي تخدم مصالح شعبها وتضمن حقوقه التاريخية في شرق المتوسط”.
وأبدي حماد استغرابه قائلا: “كيف لممثلي السلطة في دولة اليونان والتي يرتهن قرارها لإرادة الدول المانحة والمقرضة والمؤسسات المالية الدولية بأن يتوجهوا بإملاءات للسلطة التشريعية الليبية بعدم المصادقة على مذكرة التفاهم الليبية التركية، حسب ما ورد بتصريحاتهم الرسمية في تدخل صارخ في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة كاملة مثل ليبيا”.
وأشار حماد إلى أن بلاده “تتمسك بحقها الثابت في المنطقة الاقتصادية الخالصة شرق المتوسط وفقا للأطر والمواثيق القانونية والدولية”، وتتمسك أيضا بحقوقها السيادية في اتخاذ كل ما يلزم لحماية هذه الحقوق والمكتسبات التي يفرضها موقعها الجغرافي مع احترام ما تقتضيه مبادئ حسن الجوار للدول المجاورة لها.
ولفت حماد إلى أن حكومته “لا تعترف بأي اتفاقات أو مفاوضات ثنائية أو إقليمية تبرمها السلطات اليونانية والتي من شأنها المساس بالمصالح والحقوق الليبية الثابتة”.
واعتبر حماد أن ما صدر من تصريحات غير مسؤولة من المسؤولين اليونانيين لا تخدم الاستقرار الإقليمي ولا تنسجم مع تطلعات شعوب المنطقة نحو علاقات قائمة على التفاهم والتعاون وحسن الجوار، بل تعكس توترا سياسيا داخليا يونانيا تحاول أثينا تصديره إلى الخارج عبر التصعيد اللفظي والادعاءات غير الواقعية؟
ودعا الجانب اليوناني إلى “الكف عن التصريحات الاستفزازية واتباع قواعد القانون الدولي في المطالبة بالحقوق، إن وجدت”.
وفي ردّ ضمني على التصريحات من مسؤولي شرق ليبيا، أكد وزير الخارجية اليوناني خلال مؤتمر صحفي عقده الأربعاء الماضي مع نظيره الجزائري أحمد عطاف، أن أثينا “تحترم سيادة ليبيا احتراماً كاملاً”، مشدداً على “دعم بلاده لمسار يُعيد القرار إلى الليبيين عبر انتخابات حرة ونزيهة تُفضي إلى تشكيل حكومة تمثيلية حقيقية، بعيداً عن أي تدخل خارجي”.
وفي آخر تصريحاته، قال رئيس مجلس النواب عقيلة صالح خلال مقابلة مع وكالة الأنباء الليبية أن ليبيا لن تسمح بفرض أي اتفاقية بحرية تمس سيادتها أو تُنتقص من حقوقها، مشددا على أن الحوار المشترك القائم على الشرعية الدستورية والعمل الفني المتخصص هو الطريق الوحيد لحل النزاع البحري في شرق المتوسط.
وأوضح عقيلة أن مجلس النواب هو الجهة الوحيدة المخوّلة دستوريًا باعتماد المعاهدات والاتفاقيات الدولية، مؤكدًا أن الاتفاقية البحرية التي وقّعتها حكومة فايز السراج مع تركيا عام 2019 باطلة قانونيًا لعدم عرضها على مجلس النواب وعدم صدورها عن حكومة نالت الثقة التشريعية.
ورغم أن توقيع الاتفاقية مر عليه نحو 6 سنوات، إلا أن دعوة اليونان البرلمان إلى إلغائها، اعتبرها الليبيون “إملاءات خارجية على القرار الوطني لدولة ذات سيادة”.
وتتعلق الاتفاقية بترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا، بينما رفضتها اليونان بزعم أنها “اعتداء” على منطقتها الاقتصادية.
ويتمحور جوهر الخلاف حول المنطقة البحرية جنوب شرق جزيرة كريت الغنية بمصادر الغاز التي تدعي اليونان أنها “جزء أصيل” من حدودها، بينما دخلت ضمن نطاق مشترك بين ليبيا وتركيا في اتفاق 2019.





مناقشة حول هذا post