تشهد السياسة التركية تجاه ليبيا تحوّلًا لافتًا خلال العام 2025، وسط انفتاح متزايد على قيادات شرق ليبيا واستمرار علاقاتها مع الحكومة، في خطوة تؤشر على تحوّلات براغماتية لحماية المصالح الاقتصادية والأمنية لأنقرة وإعادة ترتيب نفوذها شرق المتوسط ووسط إفريقيا.
وتأتي الزيارات المتكررة لصدام حفتر، وهي الثالثة خلال هذا العام، كواحدة من أكثر المؤشرات الدلالية وضوحًا على هذا التحوّل الذي لا يخلو من تداعيات على المشهد الليبي عامة.
ووفق موقع فرنسا الدولي، فإنه على الرغم من الطابعين السياسي والاقتصادي للزيارة، فإنها تحمل أبعادا جيو إستراتيجية أعمق بالنسبة لأنقرة التي تسعى إلى إعادة التوازن في علاقاتها مع مختلف الأطراف الليبية.
وبحسب الموقع الفرنسي، تعمل تركيا على تعزيز حضورها في ليبيا عبر الانفتاح على القيادة العامة، التي تعتبرها “الطرف الأقوى” على الأرض، دون أن تتخلى عن شراكتها المستمرة مع الغرب الليبي، حيث يأتي هذا الانفتاح في إطار رؤية تركية أوسع تهدف إلى ترسيخ نفوذها في ليبيا وشرق المتوسط ووسط أفريقيا، وهي مناطق ترى أنقرة أن ليبيا تشكّل بوابتها الأساسية إليها.
وبحسب بيان صادر عن القيادة العامة، تطرقت مباحثات الجانبين إلى ملفات الاستقرار الإقليمي و”التعاون العسكري في مواجهة التحديات الأمنية”، إضافة إلى توسيع مجالات الشراكة الاقتصادية، حيث وتطمح أنقرة إلى استخدام ميناء بنغازي كممر تجاري لتصدير السلع التركية نحو دول أفريقيا الوسطى.
وترافق هذا التقارب مع سلسلة اتفاقات اقتصادية متزايدة بين الطرفين خلال الأشهر الماضية، في وقت تواصل فيه أنقرة التركيز على ملف الغاز في شرق المتوسط، وتطمح تركيا لأن تصبح المستثمر الأكبر في هذا القطاع، بينما يبدو أن معسكر الشرق الليبي لم يعد يعارض هذا الدور طالما أنه يخدم مصالح مشتركة.
أعطت الزيارة الثالثة لصدام حفتر، لأنقرة خلال أقل من عامين والثانية في غضون أشهر، مؤشراً قوياً على المضي بخطوات ثابتة في تعزيز تركيا علاقاتها مع شرق ليبيا على المستوى العسكري.
جاء ذلك بعد خطوات دبلوماسية سابقة بدأت منذ عام 2021 لفتح مسار لإزالة التوتر، الذي نتج عن الدعم المطلق لتركيا لحكومات غرب ليبيا، وتوقيع تفاهمات عسكرية وأمنية وفي مجال الطاقة معها.
وسبق أن زار صدام حفتر تركيا عندما كان قائداً للقوات البرية، لحضور فعاليات معرض «ساها إكسبو 2024 الدولي للدفاع والطيران»، الذي أقيم بإسطنبول في أكتوبر 2024، والتقى وزير الدفاع التركي يشار غولر على هامش المعرض.
كما قام صدام حفتر بزيارة رسمية لتركيا في أبريل الماضي، وأجرى مباحثات مع وزير الدفاع، يشار غولر، ورئيس الأركان سلجوق بيرقدار أوغلو، الذي كان قائداً للقوات البرية التركية في ذلك الوقت.
وترى صحيفة “يني شفق” أن اللقاء يعد امتدادًا لسياسة تركية جديدة قوامها الانخراط مع جميع القوى الفاعلة في ليبيا، وتجنب سياسة الاصطفاف الحاد التي ميزت السنوات السابقة.
ويمثل هذا الانفتاح جزءًا من إستراتيجية أوسع تتبناها أنقرة في شرق المتوسط وشمال إفريقيا، إذ تعمل على تنويع شراكاتها والحد من النفوذ الروسي المتزايد في شرق ليبيا، كما يسعى الجانب التركي إلى تعزيز الاستثمارات في قطاعات الغاز والطاقة وإعادة الإعمار، خصوصًا في المناطق الشرقية التي كانت تقليديًا بعيدة عن المشاريع التركية.
وتستفيد أنقرة في تحركها الجديد من حالة البرود التي تسود علاقات قيادة الشرق مع بعض القوى الدولية، ومن حاجة الطرفين إلى بناء قنوات تنسيقية وسط فراغ سياسي ممتد، كما تدرك أن صراع النفوذ على السواحل الليبية وموارد الغاز يجعل الانفتاح على الشرق خطوة تفرضها اعتبارات الأمن القومي التركي، فيما يمثل للقيادة فرصة لتقوية شرعيتها الدولية وتوسيع شبكات الدعم السياسي والعسكري خارج التحالفات التقليدية.
ووفق مراقبين، تدرك الحكومة في طرابلس أن هذا التقارب التركي مع معسكر الشرق لا يمثل تغييرًا في ولاء أنقرة، بقدر ما هو محاولة لاحتواء النفوذ العسكري والسياسي للشرق ضمن إطار يحفظ التوازن الداخلي ويمنع انزلاق البلاد نحو صِدام جديد.
ويأتي هذا الفهم مدعوماً بالعلاقات الاقتصادية والأمنية المستمرة بين طرابلس وأنقرة، خصوصًا مع زيارة وزير الداخلية التركي علي يرلي كايا إلى طرابلس، حيث التقى رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة ووزير الداخلية عماد الطرابلسي، وجرى خلال الزيارة بحث تعزيز التعاون الأمني وتطوير اتفاقية التعاون الموقعة العام الماضي، إضافة إلى إطلاق آلية مشتركة لإدارة ملف الهجرة وتبادل الخبرات، بما يعكس رسوخ الشراكة بين الجانبين.
وتسعى تركيا من خلال هذا المسار المزدوج إلى الموازنة بين الشرق والغرب، مستفيدة من قدرتها على الوصول إلى الطرفين. ويُنظر إلى هذا الدور باعتباره محاولة لإعادة هندسة المشهد الليبي بما يضمن عدم انفراد أي طرف بالقرار، وبما يتيح لأنقرة الحفاظ على حضورها العسكري والاقتصادي دون صدام مع القوى الإقليمية.
ومع ذلك، تثير الزيارات المتتالية لصدام حفتر مخاوف لدى بعض القوى غرب ليبيا، التي ترى فيها اعترافًا تركيًا ضمنيًا بشرعية قيادة الشرق وتعزيزًا لطموحاتها السياسية والعسكرية.
وفي الخلفية، تعمل قيادات شرق ليبيا على توسعة رقعة تحالفاتها الدولية، إذ يقود بلقاسم حفتر جهودًا لجذب الاستثمارات الأجنبية عبر الصندوق الليبي للتنمية وإعادة الإعمار.
وبينما تبدو أنقرة ماضية في بناء شبكة علاقات أكثر اتساعًا داخل ليبيا، يظل نجاح هذا النهج مرتبطًا بقدرتها على ضبط التوازنات، وضمان ألا يتحول التقارب مع “الرجمة” إلى مصدر توتر مع الحليف الأهم غرب البلاد.
بالمجمل، دخلت السياسة التركية دخلت مرحلة جديدة، تتعامل فيها أنقرة مع ليبيا كمنظومة سياسية متعددة الأقطاب، وتعمل فيها على حماية مصالحها عبر بناء جسور متوازية بدل الاصطفاف الأحادي، ما يجعل عام 2025 محطة مفصلية في رسم ملامح الدور التركي في المشهد الليبي.




مناقشة حول هذا post