أعلنت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا إبطالها لعدد من القوانين الصادرة عن مجلس النواب، أبرزها القانون المتعلق بتوسيع اختصاص المحاكم العسكرية ليشمل المدنيين، والقانون الخاص بنقل تبعية الجريدة الرسمية إلى المجلس.
وأثار هذا القرار ردود فعل متباينة بين المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة والحكومة في بنغازي، في مشهد يعكس استمرار الانقسام حول الشرعية الدستورية ومبدأ الفصل بين السلطات.
المنفي.. ترحيب بالحكم وإعلان تشكيل لجنة لمراجعة القوانين
رحّب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي بحكم الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا القاضي بعدم دستورية القانون رقم (10) لسنة 2022 بشأن الجريدة الرسمية، معلنًا عزمه تشكيل لجنة قانونية متخصصة لمراجعة جميع القوانين الصادرة عن مجلس النواب.
وأشاد المنفي بدور الدائرة الدستورية في صون مبدأ المشروعية وترسيخ الفصل بين السلطات، مؤكدًا أن اللجنة المزمع تشكيلها ستتولى تقييم القوانين وفقًا لأحكام الاتفاق السياسي ومتطلبات الشرعية الدستورية، بما يضمن وحدة المؤسسات واستقرار المسار القانوني للدولة.
وأشار إلى أن أحكام المحكمة العليا ذات طبيعة كاشفة، موضحًا أن هذا الحكم يُظهر ما شاب بعض القوانين من عوار دستوري منذ تاريخ صدورها، ما يعني أن القوانين المنشورة خلافًا لأحكامه غير مستوفية للشكل والإجراءات القانونية، ويجب إعادة إصدارها وفق الأطر الدستورية السليمة، بعد توقيعها من رئيس الدولة ونشرها رسميًا في الجريدة الرسمية التابعة لوزارة العدل.
اللافي والكوني: الحكم يحمي الشرعية الدستورية ويضمن حق الأفراد في محاكمة عادلة
رحب عضوا المجلس الرئاسي عبد الله اللافي وموسى الكوني بالحكم الصادر عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا بشأن عدم دستورية تعديل بعض أحكام قانون العقوبات والإجراءات العسكرية، لما يمثله من انتصار لمبدأ سيادة القانون وصون للحقوق والحريات التي كفلها الإعلان الدستوري.
وفي بيان مشترك، أكدا أن الحكم يجسد الدور الأصيل للقضاء الليبي في حماية الشرعية الدستورية وضمان حق الأفراد في محاكمة عادلة أمام قاضيهم الطبيعي، ويؤكد أن العدالة لا تبنى على التوسع في المصالحات، بل على احترام الحدود الفاصلة بين السلطات واستقلال كل سلطة في أداء مهامها دون تأثير أو تدخل.
وثمنا عاليا الدور الذي تؤديه المحكمة العليا كحارس للدستور وضامن لاستقلال القضاء وحقوق الإنسان، مؤكديْنِ أن محاولات توظيف القضاء في الصراع السياسي أو اتخاذ أحكامه ذريعة لتغليب طرف على آخر تعد خروجاً خطيراً عن روح العدالة ومبدأ المساواة أمام القانون.
وشددا على أن وحدة القضاء ليست مسألة تنظيمية فحسب، بل ركيزة أساسية من ركائز الشرعية الدستورية، وأي مساس بتشكيل محكمة دستورية أو إنشاء أجسام موازية خارج الإطار القانوني القائم يمسّ بجوهر استقلال القضاء ومشروعيته العليا التي لا تُجزّأ ولا تُعاد صياغتها وفق تقديرات أو اعتبارات سياسية آنية.
وأشارا إلى أن أن احترام هذا الحكم وتنفيذه بشكل اختياري حقيقي التزام بمؤسسات الدولة بمبدأ سيادة القانون، وخطوة أساسية لتعزيز الثقة في القضاء وترسيخ المسار الدستوري للدولة الليبية.
الحكومة في بنغازي.. طعن في شرعية أحكام المحكمة العليا
من جهته، شكّك رئيس الحكومة في بنغازي أسامة حماد في شرعية أحكام المحكمة العليا، مؤكدًا أن الدائرة الدستورية ملغاة قانونًا، وما يصدر عنها هو والعدم سواء.
وقال حماد إن القانون رقم (5) لسنة 2023 بشأن إنشاء المحكمة الدستورية العليا ألغى عمل الدائرة الدستورية بمحكمة النقض السابقة، وألزمها بإحالة جميع الطعون إلى المحكمة الجديدة المختصة، معتبرًا استمرار عمل الدائرة السابقة اعتداءً على وحدة القضاء ومحاولة لجرّه إلى الانقسام.
وانتقد بيانات المجلس الرئاسي واعتبرها عديمة الأثر لانتهاء ولايته الزمنية، مؤكدًا أن مجلس النواب هو السلطة التشريعية المنتخبة الوحيدة، وأن الطعن في القوانين يجب أن يتم وفق الآليات المحددة بالقانون رقم (5) لسنة 2023.
كما حذر حماد من افتعال أزمات قضائية أو دستورية لتحقيق مكاسب سياسية ضيقة على حساب استقرار الدولة وسيادتها.
المجلس الأعلى للدولة: الحكم يعيد التوازن بين السلطات
رحّب المجلس الأعلى للدولة بقرار الدائرة الدستورية القاضي بعدم دستورية قانونيْ تعديل الجريدة الرسمية وتعديل بعض أحكام قانون العقوبات العسكرية.
واعتبر المجلس أن الحكم الأول يعيد التوازن المؤسسي بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بعد أن أخلّ مجلس النواب بمبدأ الفصل بين السلطات، حين نقل تبعية الجريدة الرسمية إليه في تجاوز واضح لاختصاصات السلطة التنفيذية.
كما وصف الحكم الثاني بأنه انتصار للحقوق والحريات وصون للضمانات الدستورية للمدنيين، إذ ألغى النصوص التي كانت تجيز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، مؤكدًا أنه يتوافق مع التزامات ليبيا الدولية بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
وأكد المجلس الأعلى للدولة أن احترام أحكام المحكمة العليا واجب على جميع السلطات، التزامًا بمبدأ سيادة القانون ووحدة القضاء في ليبيا.
مشهد الانقسام يزداد تعقيدا
تؤكد هذه التباينات في المواقف عمق الانقسام السياسي والمؤسساتي في ليبيا، وتبرز تحديات إنفاذ الأحكام القضائية في ظل غياب سلطة تنفيذية موحدة وشرعية متوافق عليها بين الأطراف.
ويجد البلد نفسه أمام منعطف حاسم يتعلق بمرجعية القانون والدستور كأرضية وحيدة للحل السياسي المستدام، وسط تساؤلات متزايدة حول مستقبل المسار الدستوري ووحدة مؤسسات الدولة.




مناقشة حول هذا post