قال المدون أحمد التومي، إن الإعلام الليبي عانى لأكثر من أربعة عقود من الجمود وغياب التطور، حيث كان موجها بالكامل لصالح السلطة، مقتصرا على صوت واحد فقط، وكانت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، جميعها مسخّرة لخدمة معمر القذافي.
وفق مقالة للمدون بعنوان “الإعلام في ليبيا.. تجنيد لصالح السلطة” على شبكة الجزيرة، فإنه بعد الربيع العربي 2011، واندلاع ثورة فبراير علّق الليبيون آمالا كبيرة على أن يتغير واقع الإعلام، وأن يتحرر من عبادة الفرد الواحد، ويمنح الصحفيين والناشطين الحق في التعبير، وانتقاد السلطة، ونقل الرأي والرأي الآخر.
لكن ماذا حدث بعد الثورة؟
بعد 2011، شهد المشهد الإعلامي في ليبيا انفجارا في عدد الوسائل الإعلامية، حيث افتُتحت عشرات القنوات التلفزيونية المحلية، حتى تجاوز عددها 25 قناة خلال عامين فقط، وهو رقم ضخم مقارنة بالمرحلة السابقة، كما أُنشئت أكثر من 120 صحيفة، بين ورقية وإلكترونية، إلى جانب عشرات الإذاعات المسموعة التي انتشرت كالنار في الهشيم بسرعة في كل المدن الليبية.
لكن هذا التوسع لم يكن مصحوبا برقابة حقيقية أو أطر تنظيمية مهنية، مما جعل الكثير من هذه المنصات تتحول إلى أدوات صراع بين التيارات السياسية، فبدل أن تكون منابر لنقل الحقيقة، أصبحت بعضها أبواقا لبث خطاب الكراهية، وتحولت إلى ساحات للتجريح والتخوين، حيث استخدمتها الأحزاب كوسائل لتصفية الحسابات، وتمويلها كان في الغالب سياسيا لا مهنيا.
ومع تصاعد هذا الانفلات، لم يكن الصحفيون في منأى عن الخطر، بل أصبحوا في قلب المعمعة، حيث تعرض العشرات منهم للاعتداءات الجسدية واللفظية، كما تم الهجوم على مقرات وسائل إعلام في كل من بنغازي وطرابلس، وسقط العشرات من الصحفيين ضحايا بين 2011 و2014، إما اغتيالا أو نتيجة الاستهداف المباشر، كما فضل الكثير من الصحفيين السكوت بعد التهديدات المتكررة التي تعرضوا لها.
انقسام سياسي وانحياز للسلطات!
كان عام 2014 نقطة تحوّل حاسمة في المسار السياسي والعسكري الليبي، وهو تحوّل لم يمر دون أن يترك بصماته الثقيلة على واقع الإعلام والصحفيين. فقد انقسمت البلاد فعليا إلى شطرين أو أكثر، ومع هذا الانقسام الحاد، تشتّتت وسائل الإعلام بين ولاءات متعددة؛ فبعضها اصطف خلف سلطات الشرق، بينما ساندت أخرى سلطات الغرب، وطفت على السطح مؤسسات إعلامية هدفها الأول تغذية الفتنة وزيادة الشرخ بين الأطراف المتنازعة.
هذا الوضع المتأزم ألقى بظلاله على بيئة العمل الإعلامي، حيث تراجع تصنيف ليبيا في مؤشر حرية الصحافة من المرتبة 137 إلى المرتبة 154 خلال عام واحد فقط، بحسب تقرير منظمة “مراسلون بلا حدود” 2015. وهو تراجع يعكس حجم التدهور، خاصة في ظل مقتل العشرات من الصحفيين في الشرق والغرب، وتعرض العديد منهم للتهديد والاختطاف والاغتيال.
فرضت السلطات المتنازعة واقعا إعلاميا مشوها، حيث لم يعد مسموحا بالخروج عن “الخط الرسمي”، وفرضت كل جهة خطابا إعلاميا موحدا على المؤسسات الواقعة تحت سيطرتها، ليجد الصحفي نفسه محاصرا بين إملاءات السلطة وخطر الاستهداف، فاقدا لأبسط شروط الحياد والحرية.
إعلام بلا قانون.. لا حسيب ولا رقيب
في 3 مايو 2024، نشر المركز الليبي لحرية الصحافة تقريرا مفصلا حول واقع الإعلام في ليبيا خلال الفترة ما بين 2014 و2024، تحدث فيه عن أكثر من 488 حالة انتهاك، تنوّعت بين الاعتداءات الجسدية واللفظية، وعمليات الخطف، والقتل، إضافة إلى الهجوم على مقرات وسائل الإعلام في مختلف المدن.
التقرير تناول أيضا بشكل دقيق الإطار القانوني الغائب الذي ينظم عمل الإعلام في ليبيا، مؤكدا أنه ومنذ 2011 لم يصدر أي قانون واضح ينظم قطاع الإعلام، وهو ما يعكس تورّط السلطات التشريعية وخشيتها من سن قانون يضمن حرية الصحافة، خشية أن يُستخدم لاحقا في كشف ملفات الفساد التي تطال رئاسة هذه السلطات وأعضاءها.
كما أكد التقرير أن القانون الوحيد المعمول به حاليا هو القانون رقم 76 لسنة 1972، والذي يقتصر على تنظيم المطبوعات فقط، وهو مجال تراجع بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة في ظل التوجه نحو الإعلام الرقمي. ما يعني أن هذا القانون أصبح بلا فائدة، ولا يقدم أي حماية أو تنظيم فعلي للصحفيين والعاملين في القطاع الإعلامي.
الوضع الحالي للإعلام في ليبيا تطبيل لا حرية
بعد سنوات من الانتهاكات الجسيمة، وفقدان العديد من وسائل الإعلام لمصادر تمويلها، إضافة إلى إغلاق بعضها بقوة السلاح، لم يعد في ليبيا إعلام حر بالمعنى الحقيقي. بل تحوّلت أغلب المنصات الإعلامية إلى أدوات تطبيل ودعاية تخدم طرفين فقط في الشرق الليبي، وفي الغرب.
أما الصحفي أو الناشط والمدون الذين يجرؤن على التعبير عن رأي لا ينسجم مع الخط السياسي في نطاقهم الجغرافي، فمصيرهم في أفضل الأحوال التهديد، وفي أسوئها الاعتقال أو التصفية.
وتفاقم الوضع أكثر مع تحوّل نسبة كبيرة من الإعلاميين والصحفيين إلى أدوات في يد السلطات، ليخوضوا حملات ممنهجة في مهاجمة طرف سياسي والدفاع عن آخر، في مشهد بات يعرفه كل ليبي يتابع ما يجري على الساحة.
كلمة أخيرة
الإعلام الليبي اليوم لا يحتاج فقط إلى إصلاحات سطحية، بل إلى عقود من العمل الجاد ليستعيد عافيته ودوره الحقيقي. هو بحاجة إلى تجديد الأجيال، واستبدال الوجوه التي كرّست خطاب الكراهية والانحياز، بجيل جديد يؤمن بالحياد، ويعتنق المبادئ المهنية، ويقدّس أخلاقيات العمل الصحفي.
كما أن غياب القوانين المنظمة يشكّل عائقا كبيرا أمام أي تطور حقيقي. فبدون إطار قانوني واضح وعادل، يضمن حرية التعبير ويحمي الصحفيين، سيظل الإعلام في ليبيا ساحة للفوضى والتوظيف السياسي.
مناقشة حول هذا post