بات من البديهي أن الاقتصاد الليبي يعاني عدة أزمات، تفاقمت خلال السنوات الماضية كنتيجة منطقية للصراع السياسي والمسلح في البلاد، ولكن مع الهدوء النسبي الذي أضفاه اتفاق وقف إطلاق النار للجنة العسكرية المشتركة 5+5 في أكتوبر من العام 2020، وما لحقه من عدة تسويات سياسية مطلع 2021، ظل الليبيون يرقبون ظهور معالجات للتشوهات التي أثرت على الاقتصاد والمالية العامة في البلاد.
ليتساءل الجميع: هل سيشهد اقتصاد ليبيا نموا؟ أم أنه سيظل مراوحا مكانه أو ربما يزداد سوءا؟! وللإجابة عن السؤال يجب علينا التعريج سريعا على شيء من الأزمات التي يشهدها الاقتصاد، وما يقابلها من حلول، ومدى انخفاض الأولى، وتطبيق الثانية!
توسع الإنفاق الاستهلاكي على حساب التنموي
ارتفاع الإنفاق العام لبنود المرتبات، والدعم، ومصاريف الجهات الحكومية، وهي مصروفات ليس لها أي عائد سواء ماديا، أو على صعيد الاستثمار في العنصر البشري، لاسيما مع هبوط الأداء الحكومي بمختلف الوزارات والمؤسسات، وإثبات فشله الذريع طيلة السنوات، وسقوطه المدوّي عند المقارنة في مؤسسات القطاع الخاص على الرغم من أنها لا تحظى بالتسهيلات اللازمة.
ارتفاع هذا النوع من الإنفاق ضيّق المساحة المتاحة للإنفاق التنموي، الذي يحظى في الدول المتقدمة بالحصة الأكبر من الميزانية، بل ويتنوع إلى مجالات متعددة تبدأ من البنية التحتية، وتمر بالبحوث العلمية، وتنتهي بحقل ريادة الفضاء! وبالتالي لا وجود لأي احتمال بالتطور على صعيد الدولة، طالما لم يتم تخفيض الإنفاق الاستهلاكي، وزيادة الإنفاق التنموي.
ارتفاع معدلات التضخم في البلاد
مجموعة البنك الدولي كشفت، نقلا عن مبادرة ريتش، عن ضغوط تضخمية متزايدة، حيث سجل معدل التضخم الرسمي ما يقدر بنحو 2.8% في عام 2021 مقارنة بـ 1.4% في عام 2020 و2.2% في عام 2019.
وفي عام 2022، سجل معدل التضخم ارتفاعا تدريجيا ليصل إلى 5.7% في مارس 2022 مقارنة بنفس الشهر من عام 2021، وبحلول مايو 2022 سجل معدل تضخم سلة الحد الأدنى للإنفاق نسبة أعلى بـ 32.2% مما كان عليه في مايو 2021 وبـ 49.5% مما كان عليه في مارس 2020 مع بداية جائحة كورونا.
وأوضحت المجموعة أن أسعار السلع الأساسية (الأغذية والمشروبات، السكن، والكهرباء، والمياه، والغاز وغيره من أنواع الوقود، والنقل) تعد المساهم الرئيسَ في ارتفاع معدل التضخم الرسمي في ليبيا منذ عام 2021، حيث ساهمت الاضطرابات في سلاسل التوريد بسبب الصراع الداخلي، والتدابير الصحية المتعلقة بجائحة كوفيد 19، والاعتماد على مصادر بديلة مكلفة لتزويد المياه وتوليد الكهرباء في زيادة الأسعار.
تشوهات عديدة تقف حاجزا أمام الإصلاح
يقول الباحث والمهتم بالشأن الاقتصادي نور الدين حبارات: ” تظل التشوهات والاختلالات في الاقتصاد ككل جراء ارتفاع معدلات التضخم، والبطالة، وتفاقم الدين العام، وتراجع الاحتياطيات المالية والنقدية، وانخفاض سعر الدينار، فضلا عن تهالك البنى التحتية وتدهور الخدمات وارتفاع معدلات الفساد وسوء الإدارة، تظل جميعها عائقا أمام أي إصلاح وكابوسا يؤرق حياة المواطنين”.
على الضفة الأخرى.. النفط وحيدا!
على الرغم من الإنفاق الحكومي المرتفع بمستويات غير مسبوقة خلال العامين الأخيرين، وما ترتب على ذلك من تضخم الميزانية، وإثقال كاهل الدولة بالالتزامات، لا يزال النفط والغاز مصدر الدخل الوحيد لليبيا، دون أي مصادر أخرى، ليظل مصير البلاد مرهونا بأي تصعيد سياسي يؤدي إلى إغلاق الحقول، كما يحدث دوما، لتتوقف الحياة تماما.
يقول حبارات، إن هناك اعتمادا كليا ومفرطا من قبل الحكومة على النفط المتذبذب والقابل للنضوب كوسيلة ومصدر وحيد في تمويل الميزانية “وهو ما ينبئ بمستقبل قاتم للأجيال القادمة” حسب تعبيره، وهو وصف واقعي لمآلات الدولة في ظل اعتمادها على النفط دون إدخال مصادر أخرى تدرّ الدخل على البلاد.
والسيناريو الأسوأ من عدم وجود سوى مصدر وحيد لتمويل الميزانية، هو أن هذا المصدر في غاية التذبذب تبعا للأوضاع السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم! فسعر برميل النفط الواحد بات يرتفع وينخفض بشكل متكرر، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على الميزانية العامة المبنية على افتراضات معينة لأسعار النفط، ما يجعل أي حسابات معرضة للبعثرة.
حلول مقترحة
المستشار السابق لمحافظ مصرف ليبيا المركزي محمد أبوسنينة تحدث، خلال عدة مناسبات، عن سبل الحد من الأزمة الاقتصادية عبر عدة ممارسات، من بينها إعادة هيكلة الإنفاق العام، ومراجعة أولويات الصرف، والتوقف عن استحداث أوجه جديدة للصرف، والالتزام بالصرف في حدود الميزانية العامة المعتمدة بقانون، وتنفيذ مخصصات بند التنمية والعمل على زيادتها، حتى وإن كانت التنمية لا تتجاوز إصلاح وصيانة وترميم واستكمال البنية التحتية في مختلف مناطق البلاد.
ويرى أبوسنينة أن من بين الإجراءات اللازمة تذليل الصعاب أمام القطاع الخاص الوطني، وتعزيز قدرته في منافسة الممارسات الاحتكارية، والالتزام بالشفافية الكاملة في التعاقدات المنفذة في إطار لائحة العقود الإدارية.
إلى جانب فتح المجال أمام القطاع الخاص الوطني للمشاركة في نشاطات قطاع النفط وتقديم الخدمات اللازمة للقطاع (تموين، نقل، وصيانة) وفتح المجال لمن لديه القدرة والإمكانيات للعمل في مجال الحفر، وإنشاء وتمويل مصافي التكرير.
كما دعا أبوسنينة إلى تسهيل إجراءات تأسيس الشركات وإقامة المشروعات من قبل وزارة الاقتصاد، وتوفير حوافز وإعفاءات للمشروعات التي توفر فرص عمل للمواطنين وتخلق قيمة مضافة حقيقية للاقتصاد الوطني، وتفعيل الجهود المبذولة لدعم المشروعات الصغرى والمتوسطة، من خلال سياسة ائتمانية إلزامية يفرضها ويراقبها مصرف ليبيا المركزي.
ويؤكد رجل الاقتصاد الليبي أنه لا بد من تفعيل دور سوق الأوراق المالية وهيئة الإشراف، وإعادة نشاط الشركات المساهمة في السوق، وتنشيط دور شركات الوساطة المالية، لافتا أيضا إلى أهمية توجيه المصارف التجارية لاتباع سياسات من شأنها تسوية وسداد الديون التاريخية المتعثرة للشركات لدى المصارف، لتصحيح أوضاع السيولة بها، ومعالجة الالتزامات المترتبة عليها.
وشدد على ضرورة التزام الحكومة بدفع ما عليها من التزامات (الديون على الحكومة) لصالح الأفراد ومؤسسات القطاع الخاص، واعتبارها من ضمن أولويات صرف المال العام، لتحفيز النشاط الاقتصادي، بحسب رأيه.
بناء الدولة أول الحلول
ويؤكد باحثون وأساتذة اقتصاد أن الحل الأمثل للأزمات المالية والاقتصادية في ليبيا يبدأ من حيث ينتهي الساسة، أي بإرساء قواعد الدولة المدنية، بدءا بترسيخ أساس دستوري حاكم للبلاد، ومن ثم انتخاب مؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان وغيرها، وفرض الأمن وسيادة القانون في كل المدن، ليتمكن رواد الاقتصاد من جعل خططهم والسياسات الاقتصادية المرسومة من قبلهم واقعا ملموسا في حياة الليبيين، بعيدا عن الفساد والوساطات التي أرهقت كاهل البلاد، وعاثت فيها إفسادا.
مناقشة حول هذا post