يشهد النظام الصحي في ليبيا تدنيا في مستوى الخدمات بات معروفا لدى الجميع؛ نتيجة لغياب الأمن، والصراع المتواصل على السلطة، وترك فراغ شاسع لتغلغل الفساد في مفاصل الدولة، وعلى رأسها وزارة الصحة.
ضعف الخدمات الطبية، وفقر في التجهيزات الحديثة والإمدادات الطبية، ونقص في الكوادر الطبية ذات الكفاءة والتي غادر أغلبها إلى القطاع الخاص أو العمل في الخارج، تسبّب في دفع المواطنين نحو الاتجاه إلى دول الجوار كتونس ومصر، وبعض الدول الأخرى كالأردن وتركيا، وذلك لتلقي العلاج والرعاية على الرغم من التكاليف الباهظة والشاقة على المواطن الليبي.
وإلى جانب ضعف البنية التحتية الهشة لقطاع الصحة في ليبيا، يأتي نقص الأدوية ليزيد من معاناة المرضى الذين يطوفون بين المستشفيات بمختلف المدن بحثا عن الدواء دون جدوى، ما يضطرهم إلى طلبه من الخارج، وانتظاره لأيام قد تطول، فضلا عن أسعارها المرتفعة، وهو ما يتناقض تماما مع 2.85 مليار دولار تصرفها ليبيا على الصحة والأدوية.
الأطباء يرحلون
يتقاضى الطبيب الليبي واحدا من أدنى المرتبات على مستوى قطاع الصحة العالمي، في ظل المطالبات المستمرة بتحسين مرتباتهم دون استجابة من الحكومات المتوالية، إضافة إلى عشرات الآلاف من الأطباء الذين لم يتقاضوا مرتباتهم لسنوات، والعناصر الطبية والطبية المساعدة التي واجهت جائحة كورونا دون أن تحصل على نظير مجهوداتها حتى الآن.. ظروف دفعت بالطبيب الليبي إلى أحد أمرين؛ ترك القطاع العام بشكل نهائي والعمل في المستشفيات والمصحات الخاصة التي “تدفع بشكل أفضل” أو السفر إلى أوروبا وغيرها من دول العالم ليجد لنفسه مكانة أفضل ماليا ومعنويا.
“النظام الصحي منهار تماما”
يقول رئيس اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان أحمد حمزة، إن النظام الصحي في ليبيا منهار بشكل كامل، لافتا إلى ما تعانيه مرافق الصحة الحكومية من ضعف التشخيص والعلاج المقدم للمرضى، ونقص الأجهزة والمعدات والقدرات الطبية التي تمكن من رفع الأداء.
وكشف حمزة، في حوار مع وسائل إعلام أجنبية، عن رصد مبالغ ضخمة للقطاع لم تنقذ جميعها وزارة الصحة من الفشل في إرساء منظومة رعاية توفر الحد الأدنى من الأساسيات التي يحتاجها المواطن على مستوى الإسعافات الأولية، والأمراض المستعصية الأخرى التي يعاني منها الليبيون كالأورام والسرطانات.
ضحيةً للحرب
هكذا وصف أطباء قطاع الصحة في ليبيا؛ فلم تسلم المستشفيات والمراكز الصحية بمختلف مدن ليبيا من تبِعات الحروب التي تشنها المجموعات المسلحة ضد بعضها ، وأسفرت عن سقوط قذائف وشظايا على المراكز الصحية وهي مكتظة بمئات المرضى بحالات متفاوتة بعضها تحت العناية المركزة.
كما تورطت المجموعات المسلحة، وفق أطباء، في استهداف المرافق الصحية، وتهديد الأطقم الطبية، والاستيلاء على الإمدادات الطبية لنقلها إلى المستشفيات الميدانية التابعة لهم؛ لمعالجة مصابيهم في الحروب المتوالية فيما بينهم.
ولم تكن فرق الإسعاف بمنأى عن هذا الاستهداف، بل بشكل أسوأ؛ فالقصف الجوي، والأسلحة الخفيفة كلها كانت سيارات الإسعاف وطواقمها عرضة لها، وقد وثقت منظمة الصحة العالمية في هذا السياق أكثر من 41 هجوما على العاملين في مجال الصحة والمرافق خلال الفترة من 2018 – 2019 في كل أنحاء البلاد.
تضخم وظيفي
ومع انهيار المنظومة الصحية، ووقوع الأطباء ضحية للحروب، يشهد قطاع الصحة تضخما في الكادر الوظيفي الذي تجاوز 260 ألف موظف بنفقات مرتفعة تتعدى نسبة 107% دون توزيعهم بشكل فني يغطي كل المنشآت الصحية في ربوع البلاد، لتشهد تكدسا للكوادر في بعض المرافق، وانعداما في أخرى.
فساد مستشرٍ
يعاني القطاع من الفساد المستشري الذي طال مفاصل وزارة الصحة، وتورط فيه مسؤولوها، فقد أعلنت حكومة الوفاق الوطني سابقا تورط بعض المسؤولين في شبهات فساد مالي فيما يتعلق بعلاج المرضى في الأردن.
كما قام النائب العام بإصداره أوامره بالقبض على وزير الصحة بحكومة الدبيبة ووكيله على خلفية تورطهما في قضايا فساد مالي وإداري، والقيام بأعمال توريد وحدات إنتاج الأوكسجين بنسبة زيادة في السعر وصلت إلى 1000% من سعر بيع السوق، وغيرها من قضايا.
وعلى الرغم من ضخامة الأموال المخصصة لوزارة الصحة؛ فإن ليبيا تعاني من تراكم ديون العلاج في الخارج تجاه عدة دول، فقد كشف ديوان المحاسبة، في مارس الماضي، عن وصول ديون المستشفيات والمراكز الصحية بالأردن وحدها إلى أكثر من 53 مليون دولار أمريكي.
وبشأن ديون العلاج في تركيا المستحقة على الدولة الليبية فقد عقد السفير الليبي بتركيا مصطفى القليب، في مايو الماضي، اجتماعا مع أعضاء لجنة حصر وتسديد ديون العلاج بالخارج؛ لمناقشة الديون المتراكمة عن السنوات السابقة وآلية سدادها دون الكشف عن المبالغ النهائية حتى الآن.
فيما كشف رئيس الغرفة النقابية الوطنية للعيادات الخاصة في تونس بوبكر زخامة أن قيمة الديون الليبية للمصحات في بلاده قاربت 100 مليون دولار.
تضخم في الديون أرجعه مسؤولون بالقطاع إلى الفوضى في تشكيل “اللجان” المعنية، وعدم التنسيق، وهو ما خلق فراغا أدى إلى نشوب الفساد في هذا الملف، بما يستدعي تعدل السلطات الأمنية والقضائية للتحقق من سير العمل فيه.
ويظل حل الأزمة، بحسب الأطباء والمسؤولين في القطاع، مرهونا بإنهاء الانقسام المؤسساتي في البلاد، وفرض الأمن، وامتثال كل المؤسسات تحت سلطة واحدة تتمكن من إنفاذ القانون، وبسط النظام، وتفعيل الرقابة والمحاسبة؛ لحماية حق المواطن الليبي في أدنى وأبسط حقوقه؛ وهو العلاج.
مناقشة حول هذا post