أفاد الرئيس السابق للحكومة الليبية فتحي باشاغا بأن ليبيا تصدرت قائمة الدول الأفريقية، من حيث حجم احتياطيات النقد الأجنبي، متجاوزةً سقف الـ 80 مليار دولار.
وأفاد باشاغا في تدوينة له بعنوان” احتياطي ليبيا النقدي بين التحديات الاقتصادية وفرص النهوض الوطني” بأن الرقم لا يُعبّر فقط عن رصيد مالي، بل هو رمز لقوة الدولة وقدرتها على توفير الأمن الاقتصادي، واستقرار العملة، وتلبية احتياجاتها من الواردات في عالم يضجّ بالتقلبات، فالاحتياطي يعكس استقرارًا ماديًا يساعد في صمود البلاد أمام الصدمات الاقتصادية، ولكنه يتطلب إدارة واعية للحفاظ عليه، وذلك وفق تقرير حديث لبنك تمويل التجارة في أفريقيا “أفريكسيم”.
وتابع فإن هذه الطمأنينة التي يحملها الاحتياطي تخفي خلفها تحديات عميقة قد تفتح آفاقًا رحبةً أو تدفع البلاد نحو هاوية اقتصادية، متسائلا كيف يمكن لبلد منهك بفعل الحروب والنزاعات، ومثقل بالفساد والانقسامات، أن يستغل هذه الثروة بشكل فعّال ومستدام؟ هل سيقود هذا الاحتياطي ليبيا إلى برّ الأمان، أم سيبقى مجرد رقم جالباً للمخاطر بدل أن يكون منارة تضيء الطريق؟
وقال فتحي باشاغا، إن اعتماد الاقتصاد الليبي شبه المطلق على النفط يجعل هذه الاحتياطيات عرضة للتآكل السريع أمام تقلبات أسعار النفط العالمية، مردفا أنه لا يكفي الاحتفاء بوجود هذه المليارات، بل ينبغي إدراك أن أحادية المصدر تعني هشاشة البنية الاقتصادية وتهديدها بالعجز كلما تراجعت أسعار النفط.
وأكد باشاغا ضرورة تحويل الثروة النفطية إلى رافعة لاقتصاد متنوع، قوامه الزراعة، الصناعة، الخدمات، والسياحة، ليصبح ملاذاً آمناً يقي البلاد شرّ الأزمات، مشيرا إلى أن هذا ما حققته دول أخرى استطاعت تنويع مصادر دخلها عبر استثمارات إستراتيجية، مما جعلها أكثر مرونة أمام الأزمات العالمية.
ولفت إلى أن التحدي لا يقتصر على تنويع الاقتصاد، بل يمتد إلى الإدارة الواعية للمال بعيدًا عن نزعات الإسراف والهدر، كون الإدارة المالية في ليبيا تعاني غياب الضوابط، وتقع غالبًا تحت تأثير قرارات شعبوية ومزاجية قد تلتهم الاحتياطي النقدي كشجع النيران على الحطب.
وحذر من أنه إذا لم يتم ترشيد الإنفاق وتوجيهه نحو مشاريع تنموية وإصلاحات هيكلية، لن يكون بوسع الدولة أن تحصّن احتياطياتها، وستظل معرضة لخطر فقدان ثرواتها التي هي حقٌ للأجيال القادمة، حيث تتطلب هذه الإدارة الحكيمة شفافية صارمة ورقابة مؤسسية فاعلة تضمن الاستفادة من كل دينار لتحقيق مصلحة الشعب.
وزاد أن هذا الواقع يضع مسؤولية ثقيلة على عاتق حكومة قوية وواثقة من نفسها، حكومة تتخذ قرارات جريئة وحكيمة في إدارة المال العام بعيدًا عن ألاعيب السياسة والقرارات الشعبوية وتكتيكات الاستغلال الشخصي، باعتبار ليبيا بحاجة إلى حكومة نزيهة، غير ملوّثة بشبهات الفساد، تعمل بروح وطنية وتسعى لمصلحة الشعب لا مصلحة الأفراد، حكومة قادرة على وضع البلاد على مسار الاستقرار، وإطلاق مشروع اقتصادي طموح يعيد توزيع الثروات بشكل عادل، ويبني الدولة على أسس متينة.
واستطرد أنه في غياب مؤسسات تتمتع بهذه المواصفات، سيبقى الاحتياطي النقدي مجرد رقم يزيّن التقارير، دون أن يكون له أثر حقيقي على حياة المواطن ومستقبل الأجيال، فالسياسات الاقتصادية التقليدية التي تعتمد على سد العجز بزيادة الإنفاق دون خطط استثمارية سليمة لن تكون سوى طريق للهلاك، باعتبار أن الفساد عنصر فتاك يستنزف الاقتصاد ويحبط كل محاولات الإصلاح، ويحوّل ثروات البلاد إلى مكاسب لأفراد معدودين بدلاً من أن تكون دعماً لنهضة شاملة.
وشدد باشاغا على تبني إستراتيجيات اقتصادية متكاملة تعيد رسم الأولويات الوطنية، تقلل الاعتماد على النفط، وتطلق مشاريع تنموية حقيقية قادرة على خلق فرص العمل وتحقيق نهضة عمرانية واقتصادية شاملة، تعزز الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ويتضمن ذلك إصلاح النظام المالي والمصرفي، وتطوير آليات التحصيل الضريبي، وإقامة شراكات دولية لتقوية البنية التحتية اللازمة لدعم القطاعات غير النفطية، وتعزيز التعاون التجاري الدولي للاستفادة من موقع ليبيا الإستراتيجي كمركز للتجارة بين أوروبا وأفريقيا.
ختاما، قال باشاغا إن بناء ليبيا جديدة يتطلب تغييرًا حقيقيًا في النهج، فالعبرة ليست بكم الأموال الموجودة بل بكيفية استخدامها بحكمة ومسؤولية، فاحتياطيات ليبيا النقدية ليست مجرد أموال يمكن استنزافها في اللحظات الصعبة، بل هي نافذة أمل نحو مستقبل أفضل من خلال تبني سياسات اقتصادية مرنة تراعي التحديات والفرص، وتتكيف مع تقلبات الأسواق العالمية، وتقوم على إدارة رشيدة وتوجيه استثماري سليم، متسائلا “هل ستتمكن ليبيا من استغلال احتياطياتها النقدية لبناء اقتصاد قوي ومستقل، أم ستبقى تلك الاحتياطيات رهينة لسياسات عشوائية وقرارات غير محسوبة”؟.
مناقشة حول هذا post