عاد ملف المحكمة الدستورية إلى واجهة الخلاف بين الأطراف السياسية بعد أن أصدرت الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا، في الثاني من نوفمبر الجاري، حكمين قضائيين قضت فيهما بعدم دستورية قانونين صدرا عن مجلس النواب عامي 2017 و2022.
وقضى الحكم الأول بعدم دستورية تعديل أجراه مجلس النوب عام 2017 على قانون العقوبات العسكرية، بأن أجاز “محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في جرائم الإرهاب والجرائم المرتكبة ضد شخصية الدولة”، فيما قضى الحكم الثاني بعدم دستورية قرار آخر أصدره مجلس النواب عام 2022 بموجبه نقل تبعية الجريدة الرسمية إلى مجلس النواب لتصبح تنشر التشريعات والقوانين مباشرة عن رئيس المجلس.
أكاديميا، أكد الأكاديمي وأستاذ القانون الدستوري أحمد العاقل، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قانون مجلس النواب بإنشاء المحكمة الدستورية، يواجه خللاً جوهرياً لأنه صدر “من دون أي تعديل للقوانين التي أنشأت المؤسسات القضائية في البلاد، وبالتالي لا يستند إلى قاعدة قانونية تخول السلطة التشريعية إنشاء هيئة رقابة دستورية مستقلة عن المحكمة العليا”.
وأوضح أن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا موجودة منذ عام 1954، وهي المختصة أصلاً بالنظر في القضايا والطعون الدستورية، قبل أن تجمد خلال حكم النظام السابق وتعاد للعمل بعد عام 2011، مؤكداً أن “اختصاصها أصيل وصحيح، ولا يجوز إنشاء محكمة دستورية جديدة من دون تعديل القوانين القضائية أو الإعلان الدستوري نفسه”.
وتابع العاقل أن مجلس النواب “تجاهل مبدأ المشاركة المؤسسية في التشريع، إذ إن المجلس الأعلى للقضاء والمحكمة العليا طرفان أساسيان في أي تعديل يمس السلطة القضائية، وهو ما لم يحدث في هذا القانون”، معتبراً أن إنشاءها جاء “بدافع المماحكات السياسية بين السلطتين أكثر من كونه إصلاحاً قضائياً”.
ويتقاطع معه في الرأي الباحث في الشأن السياسي بشير الكوت، الذي يرى أن الإصرار على تفعيل المحكمة الجديدة وسط الاعتراضات “سابقة خطيرة تحول القضاء من أداة ضابطة إلى أداة نزاع سياسي”، محذراً من أن “الاستمرار في تطبيق القانون من دون مراجعته سيقوض وحدة القضاء ويخلق ازدواجية دستورية، لكل سلطة قضاؤها الخاص”.
وأضاف الكوت في حديث لـ”العربي الجديد” أن الجدل “لم يعد خلافاً قانونياً بل تحولاً في طبيعة الصراع الليبي إلى مرحلة مأسسته، إذ يسعى كل طرف إلى توظيف أدوات القانون والقضاء لكسب الشرعية”، مشيراً إلى أن “الجميع يوظف ورقة التشريع بلا سند دستوري، فيشرع أو يطعن بحسب المصلحة السياسية”.
وفي الوقت الذي يعتبر فيه الكوت أن “تقاذف المجالس البيانات بينها بالتهم لا يكشف عن شيء سوى عن سوء الأوضاع السياسية التي قد تصطدم بها خريطة الطريق السياسية الحالية، وقد تدفع الأوضاع إلى تبنيها خيار الاستفتاء على استبعاد كل الهيئات السياسية الحالية، وهو أمر خطير للغاية قد يدخل البلاد في حالة فراغ سياسي حاد”، يحذر من أن “المساس بالبنية القضائية وتحويلها إلى ساحة تنازع سياسي قد يدخل البلاد في حالة صدام أكثر حدة من الجمود السياسي الحالي، بأن يهدد وجود الدولة من أصلها”.
ويؤكد الكوت أن “القضاء هو الحقل الوحيد الذي تتقاطع عنده كل السلطات، لكن انقسام المشهد بين محكمة عليا في طرابلس وأخرى دستورية في بنغازي سيهدد أوضاع الكثير من القوانين المهمة ويجعلها عرضة للمصالح الضيقة، مثل قانون النفط والقانون المالي المرتبط بالمصرف المركزي، وسيطاول الاتفاقات الدولية التي ستفقد الأمان القانوني، ويهدد ملفات استحقاق أخرى مثل تنظيم الانتخابات التي تحتاج جهة قضائية مستقلة يحتكم إليها للفصل في الطعون”.
ويعود أصل الخلاف إلى إصدار مجلس النواب قانون إنشاء المحكمة الدستورية في ديسمبر 2022 ومقرها في بنغازي، مبرراً الخطوة بأن القوانين القضائية الليبية لا تعطي المحكمة العليا “الولاية بالنظر في الطعون الدستورية”.
وفي مارس 2023، أبطلت المحكمة العليا هذا القانون، فيما علق المجلس الأعلى للدولة التواصل مع مجلس النواب احتجاجاً على ما رآه تدخلاً في القضاء، غير أن عقيلة صالح أعاد نشر القانون في ديسمبر2023، قبل أن يعود ويعلن عن اتفاقه مع المجلس الأعلى على “عدم إصدار القانون حتى لا يتعارض مع القاعدة الدستورية”، قبل أن يعود مرة أخرى لتفعيله وتشكيل مجلس أعضائه، ما أثار رفضاً واسعاً في الأوساط القضائية حينها.
وفي أبريل الماضي، أصدر المجلس الرئاسي مرسوماً رئاسياً “بوقف العمل بالقانون”، متهماً مجلس النواب بـ”محاولة الهيمنة على السلطة القضائية من خلال أداة التشريع”، إلا أن عقيلة صالح رد على الفور بتمسكه بصلاحيات مجلس النواب في إنشاء المحكمة الدستورية.




مناقشة حول هذا post