عبدالرزاق العرادي
هروباً من الفوضى الخلاقة التي تعيشها بلادنا وبعيداً عن السياسة التي تلاحقنا الكتابة عنها، حتى في الإجازة، والاصطياف على الشاطئ. كنت أستمتع بالشمس والسباحة، حين اقترب مني شخص بوجه باسم. سلم عليَّ بحرارة وعرّفني بنفسه قائلاً: حضرتك الأستاذ عبدالرزاق العرادي، أنا فلان الفلاني، أنا من أشد المعجبين بتغريداتك على منصة إكس، وخاصة الأخيرة. شكرته على لطفه ومدحه، وبعد أن انصرف، التفت إلى مرافقي فقلت لهم: هكذا هي السياسة والكتابة عنها؛ قد تجد من يثني على كتاباتك ويواقفك ويؤيدها، تماما كما تجد من يصب جام غضبه وحمم سبابه وشتائمه عليك، سواء علناً أو من وراء جدر.
هذه الحادثة جعلتني أفكر في طبيعة السياسة والكتابة عنها. فالسياسة تحمل في طياتها تقلبات دائمة؛ فقد تجد من يثني عليك في موقف ما وتجاه قضية معينة، وتجد آخر يصب جام غضبه عليك، سواء كنت مؤيداً أو معارضاً في موقف آخر أو قضية أخرى. هذه الطبيعة المتغيرة للسياسة تنعكس أيضًا على العلاقات بين الناس إذا دخلت بينهم السياسة، حيث تتبدل وفقًا للمواقف والمصالح. فلا صداقات تدوم ولا عداوات تبقى ثابتة. في السياسة، تصبح العلاقات مجرد أدوات لتحقيق أهداف معينة، وقد تدفع هذه الأهداف أطرافاً متخاصمة إلى التحالف، أو تحول الحلفاء إلى أعداء لدودين.
شهدت الساحة السياسية الليبية تقلبات بارزة تعكس طبيعة التحالفات السياسية المتغيرة. خلال الحوار السياسي الأخير في تونس وجنيف، تشكلت قائمة باشاغا-عقيلة على غير المتوقع ودون سابق اتفاق أو إنذار، لتخلق تحالفاً جديداً تجاوز الخصومة السياسية السابقة. هذا التحالف الجديد ولَّد أيضا تحالفات أخرى، مثل تحالف الدبيبة-الكبير، الذي لم يكن ليتصوره أحد في ظل تلك الظروف.
ولكن بعد مضي ما يقارب ثلاث سنوات، انهار هذا التحالف وتحولت العلاقة بين الدبيبة والصديق الكبير إلى عداوة علنية، مما مهّد الطريق لسيناريو التخلص منه، خارج نطاق التشريعات النافذة وعبر جسم لا وجود دستوري له (المجلس الرئاسي)، وبإخراج من ‘دغيم’ وتهليل من أصحاب المبادئ ووسائل إعلامهم، فاتحًا المجال أمام السيناريو المظلم النفط مقابل الغذاء.
هذا السيناريو سيبوء بإثمه تاريخيًا وقانونيًا الرئاسي بأعضائه الثلاثة. باختصار، ما كان يُنظر إليه سابقاً كعدو أصبح حليفاً، ومن كان حليفاً صار عدواً، وفي كلتا الحالتين كانت المصالح والفجور في الخصومة هما العنوان الأبرز. هكذا تحولت تحالفات الضرورة إلى محاور جديدة للصراع على السلطة.
هذه التحولات في الساحة السياسية الليبية ليست فريدة من نوعها، بل هي جزء من نمط عام نراه على المستوى الدولي. كما رأينا في ليبيا كيف تحولت التحالفات والخصومات بين باشاغا وحفتر وعقيلة والدبيبة والصديق الكبير، نرى نفس الديناميات على المسرح الدولي. العلاقات بين قطر ودول الخليج ومصر شهدت تحولات مماثلة، وكذلك بين تركيا ودول مثل مصر والإمارات والسعودية.
وفي مشهد آخر مثير للدهشة، تركيا التي كانت تعارض بشدة تحركات حفتر وأبنائه، أصبح مسؤولون بارزون في حكومتها الآن يستقبلون شخصيات مقربة منه وكذلك أبناءه. هذه التحولات قد تبدو غريبة، لكن لها ما يبررها؛ فمن المعلوم أن نفوذ تركيا يرتكز كثيرا في الغرب الليبي، بينما ترتبط مصالحها الرئيسية بالشرق الليبي، حيث يتمتع حفتر بنفوذ قوي. هذا التغير في المواقف يعكس محاولة تركيا للحفاظ على مصالحها في ليبيا بأسرها، مما يُظهر مرة أخرى كيف يمكن للمصالح أن تعيد تشكيل العلاقات السياسية، حتى بين الأطراف التي كانت تقف على طرفي نقيض مع خصومها.
هذه الطبيعة المتغيرة للسياسة تفرض علينا أن نكون واقعيين في نظرتنا للعلاقات السياسية. فالعلاقات قد تتبدل بمرور الوقت وفقًا للمصالح المتغيرة، فقد يكون هناك توافق اليوم وتباعد غدًا، والعكس صحيح. الأهم هو أن ندرك أن السياسة تدور في فلك المصالح، وهي التي تحرك العلاقات وتحدد مآلاتها. وفي الوقت ذاته، علينا أن نتعلم كيف نبحر فيها بحكمة، مسترشدين بقول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لست بالخب ولا الخب يخدعني.”
السياسة، هي ميدان متقلب لا يعترف بالثوابت، حيث الخصومة قد تتحول فجأة إلى تحالفات غير متوقعة. العلاقات فيها لا تقوم على الصداقات أو العداءات، بل تدور في فلك المصالح التي توجه دفة هذه العلاقات، سواء نحو الصداقة أو العداء. حتى أصحاب المبادئ يجدون أنفسهم، في لحظات معينة، منقادين وراء تلك المصالح، فينقلب المحارب للفساد حليفًا لمفسد، ويصافح المعادي للانقلابات انقلابيا كان يرفضه. في هذا العالم المتغير، تتبدل التحالفات بمرور الوقت، مما يفتح أبوابًا جديدة للتقارب أو التباعد بين الأطراف، بحسب ما تقتضيه المصالح والمواقف.
كلمة أخيرة في ظل هذه الفوضى التي أفرزها التصرف العبثي للمجلس الرئاسي، والذي أشك أنه صيد خاطرهم. في هذا السياق، يجدر بنا تسجيل الموقف العقلاني الذي اتسمت به المجموعات المسلحة، مقارنة بالصبيانية السياسية الرسمية التي شهدتها العاصمة خلال هذه الأزمة. هذه المجموعات دفعت باتجاه حقن الدماء، بينما دفعت الجهات السياسية نحو الصدام، ولكن الله سلم.
مناقشة حول هذا post